رواد المســـرح العربي في القرن التاسع عشر
أ.د أحمد صقر – كلية الآداب- جامعة الإسكندرية 
سلسلة محاضرات في المسرح العربي الحديث والمعاصر (1)


أجمع الكثير من النقاد ودارسى المسرح علي أن المسرح العربي ازدهر واكتمل على يد ثلاثة رواد هم الروافد الأساسية للمسرح العربي :-

مارون نقــــــاش

بعد الإرهاصات الأولى للمسرح العربي يمكن القول أن المسرح العربي قد ولد عام 1847 حين أخرج “مارون نقاش” (الذى ولد وعاش في الفترة من 1817- 1855).. المسرحية العربية الأولى وكان عنوانها “البخيل” إستيحاء من “موليير” وكان طبيعيا أن يتجه “مارون نقاش” إلى المسرح الأوروبي بأصوله وقواعده التي سبق وأن اطلع عليها في رحلاته إلى الغرب.

ولقد ولد “مارون نقاش” في صيدا عام 1817 ثم غادرها إلى بيروت عام 1825، وتلقى ثقافة عربية واسعة، وظهرت مواهبه في نظم الشعر وكان مولعا بدراسة اللغات والفنون، ويذكر بعض المؤرخين أنه كان يتقن ثلاث لغات، هي:- التركية والإيطالية والفرنسية، وأنه تعلم فن الموسيقى وأتقنه ثم شغل عدة مناصب حكومية، ولكنه آثر الانصراف إلى التجارة، وقد سافر إلى بلاد كثيرة سعيا وراء التجارة..
وحين قصد إلى إيطاليا- لتسويق بضاعته والاستيراد منها- عرف المسرح لأول مرة، فاستهواه ورأى فيه وسيلة فعالة للنهضة والتطور والإصلاح الاجتماعى فطغى حبه للفن على حبه للتجارة.

كانت أول مسرحية كتبها “مارون” ومثلها في أواخر عام 1847 في منزله ومهد لها بخطبة بيًن فيها:- غاياته، وشرح رسالته في المسرح وتحدث عن أسباب تأخر الشرقيين- ومن هذه المقدمة نفهم مدى تفهمه لرسالة المسرح فهو يبيٍن أن هدف المسرح هو تهذيب الطبائع وأن المسرح ظاهرُه مجاز وصراع وباطنه حقيقة وصلاح…
وهكذا بين “نقاش” الرسالة الإصلاحية للمسرح، كما يشرح في خطبته هذه وجود نوعين:- الكوميديا والدراما..، وأن بعضها بالأشعار وبعضها بغير الأشعار ويشير أيضا إلى النوع الموسيقي الذى يُمثًل في الأوبرا… وبيًن أنه سيحاول تقليد ما عند الأوروبيين ويؤكد مرة أخرى الرسالة الإصلاحية للمسرح مبينا أيضا فهمه- بحرفيتة فيوضح أن نجاح المسرحية يعتمد على حسن التأليف، وبراعة المشخصين، والمحل اللائق بالطواقم والكومة الملائمة.

أما مسرحيته الثانية فكانت “أبو الحسن المغفل” أو “هارون الرشيد” وقدمها في أواخر عام 1849.. وقد وصف الرحالة الإنجليزى “دافيد أركوهارت” الحفلة التي قدم فيها مسرحيته الثانية وصفا دقيقا.
وكان المسرح مقاما أمام البيت وروعى فيه كل الوسائل التي يمكن أن يتضمنها المسرح، وذكر أن مسرحيته هزلية قصيرة قدمت ما بين الفصلين الثانى والثالث يدور موضوعها حول زوج خانته زوجته ويذكر الرحالة أن الممثلين كانوا مرتبكين، وأن الفناء الذى تخلل المسرحية كان روائيا، ولكنه أثنى على إخراج المسرحية وقال إن الناحية الفنية فيها تدل على ظواهر كامنة عند المؤلف.
وكانت أخر مسرحية قدمها “مارون” في حياته القصيرة هي “الحسود السليط” وهي مسرحية اجتماعية عصرية قدمها عام 1835 ولم يكن “مارون” يقتصر على التأليف بل كان يقوم بالتلحين أيضا، وكان يستخدم الشعر والنثر في حواره.
ويأتى بعد “مارون” أخوه- “نقولا نقاش”- الذى يعد واحدا من تلامذته الذين تدربوا على يديه، ويعترف “نقولا” بهذه التلمذة، وكان واضحا أنه كان واعيا بفن المسرح وتاريخه- واتجاهاته، وأنه كان- أيضا- يجيد الإيطالية وقد قرأ بها كثيرا عن المسرح- ويحدثنا هؤلاء في مواضع تختلف عن بناء الرواية- المسرحية، وعن أصول التمثيل والإخراج، وعن تقسيم المسرح وحركة الممثلين وإتقان فن التمثيل،- ولكنه لم يقدم مسرحيات جديدة وإنما حمل فن أخيه “مارون” وقام بإعادة عرضه وتمثيله.
وكان هناك تلميذا آخر في مدرسة “مارون” هو ابن أخيه “سليم خليل النقاش”، وقد ألف فرقة تمثيلية في بيروت، وكانت هذه الفرقة هي أول فرقة وفدت إلى مصر، وكان فنانا دارسا، لأنه كان يكتب في المجلات عن المسرح ورسالته وعن تاريخه في أوروبا، كما كان يتحدث عن علاقة المسرح بالحضارة وقد قامت هذه الفرقة بالتمثيل في بيروت قبل رحيلها إلى مصر.

يعقـــــوب صنــــــوع

بعد المراحل الأولى للمسرح في مصر- ما جلبه نابليون معه من فرق مسرحية، وفرق الجاليات الأجنبية…إلخ- شهدت مصر نهضة مسرحية على يد “يعقوب صنوع” المشهور بـ”أبى نظارة” الذى ولد من أبوين يهودين عام 1839، وكان أبوه مستشارا للأمير “أحمد يكن” فأرسله إلى إيطاليا ليدرس على نفقته وهناك عرف التمثيل وأتقنه وهو الذى كان يهواه منذ صغره، فلما عاد إلى مصر.. وكان يجيد عددا كبيرا من اللغات- استطاع أن يؤدى خدمة كبيرة في مجاله المسرحى وفي مجال الصحافة أيضا، وكانت تدفعه عوامل وطنية هي التي جعلته يرى أن المسرح آداة فعالة في إنهاض الشعوب، وأن الشعب المصري بصفة خاصة- في عهد الخديو إسماعيل- في حاجة إلى التنبيه… ومن هنا أسس مسرحا ليكون منبرا للتوجهات القومية والعظات الاجتماعية.
ولقد تحدث “يعقوب صنوع” عن تأسيسه لمسرحه في محاضرة ألقاها في باريس عام 1903 فيقول:-
“ولد هذا المسرح في مقهى كبير كانت تعزف فيه الموسيقى في الهواء الطلق وذلك وسط حديقة الأزبكية عام 1870”.
ويعترف “يعقوب صنوع” بأنه قد شاهد فرق الجاليات الأجنبية في مصر وتأثر بها وهي التي هدته إلى إنشاء مسرح عربي، ثم يعرض في هذه المحاضرة قصة الحفلة الأولى التي قدم فيها مسرحياته.
وقد بلغ عدد مسرحياته اثنين وثلاثين مسرحية، ولكن من المؤسف أنها ضاعت ولم يبق منها سوى مسرحية واحدة، هي:-
“موليير مصر وما يقاسيه” التي يبسط فيها متاعبه في إدارة مسرحه ويرد على النقاد والخصوم كما فعل “موليير” في مسرحية “إرتجالية فرساى” وربما إحتفظت لنا المصارد بأسماء بعض مسرحياته التي كانت في الغالب هزليات قصيرة خرج فيها بين العناصر المصرية والأوروبية، مثل:-
“غندور مصر”، “غزوة رأس تور”، “زوجة الأب”، “الضرتان”، “زبيدة”، “الأميرة الإسكندرانية”، “آنسة على الموضة”، “حلوان والعليل”، “الحشاشين”، “الوطن والحرية”.
ومعظم مسرحيات “يعقوب صنوع” مفقودة، ولقد استطاع د.محمد يوسف نجم ان يحصل على بعضها، ثم نشرت د.نجوى عانوس مجموعة منها، ومع ذلك يبقى جزءا كبيرا منها ضائعا.
والغالب على مسرحياته تصويرها لقضايا اجتماعية وخاصة قضايا الحب والزواج في الأسرة اليهودية، والأسرة السورية المتمصرة، ثم الأسرة المصرية من الطبقة الدنيا.. فكأنه يصور ثلاث شرائح إجتماعية للأسرة العربية بوجه عام في سورية ومصر ويفرد الأسرة اليهودية باعتبار أن الديانة اليهودية جنسية خاصة بأبناء هذه الطائفة.
وتكاد تكون المشكلات التي تبنى عليها عقد المسرحيات عنده تكمن في تدخل الأبوين في العلاقات التي تنشأ بين أبنائهم وغيرهم وفي وجود فوارق اجتماعية تحول دون إتمام الزواج أو على الأقل تعويقه- لأننا نرى في جميع مسرحيات “صنوع” أنها تنتهي نهاية سعيدة بزواج العاشقين بعد تخطي العقبات التي تحول بينهم.
ونرى “صنوع” يلجأ عادة إلى ربط هذا الموضوع الاجتماعى القائم على الحب والزواج بموضوع آخر يحاول أن يعقد به الأمور.
كما نرى في مسرحية “البورصة” إذ يربط زواج “يعقوب” و”لبيبة” بأحداث البورصة المصرية ومضاربات السماسرة فيها وفي مسرحية “العليل يربط زواج “هانم” و”مترى” بحمامات حلوان والتساؤل حول قدرتها على الشفاء.
ويقول أحد الباحثين أن هاتين المسرحيتين بصفة خاصة تفوح فيهما رائحة الدعاية التجارية.. وكأن “صنوع” قد أخذ أجرا من البورصة أو من حمامات حلوان ليقوم بالدعاية لهاتين المؤسستين الناشئتين في ذلك الوقت. وفي مسرحيات أخرى نجد “يعقوب” يوجد نوعا من التداخل في سلسلتين أو عدد من السلاسل.. ففي مسرحية “أبو ريدة” يرتبط زواج “بمبة” و”نحلة” بزواج “أبو ريدة” و”كعب الخير”.. وفي مسرحية “الصداقة” يتزوج “فتح الله” من “صفصف”- و”نعوم” من “وردة” و”نجيب” من “نقلة”.
ولا شك أن الرباط الذي يربط مسرحيات “يعقوب صنوع” يرتكز على عنصر الإضحاك- ويعتمد هذا العنصر عنده على اللهجات التي نرى “صنوع” يستخدمها بمهارة، فنجد في “البورصة” يستخدم اللهجة البربرية، ونجد فيها أيضا اللهجة الرومية، وكذلك في مسرحية “الأميرة الإسكندرانية” التي يقوم بالبطولة فيها “كارولينا” و”خارالامبو”، ونجد اللهجة السورية في مسرحية “الصداقة” ولهجة الأجانب عندما يتكلمون العربية بطريقة مضحكة في مسرحية “الصداقة” و”السواح” و”الحمار” و”الأميرة الإسكندرانية”.
الشئ الثاني الذي يعتمد عليه “صنوع” في الإضحاك هو خلق شخصيات غريبة شاذة، مثل: “الحاج علي” و”إلياس” في “العليل” و”الملك” في “الدرتين”.
كذلك يعتمد على الخدم في القيام بأدوار مهمة في التمهيد للأحداث وفي نقل الرسائل بين المحبين ولا تكاد الحياة الشعبية المصرية تظهر إلا في أدوار الخدم.
ويلجأ أحيانا إلى أسلوب التنكر كما نجد في مسرحية “الصداقة” و”الأميرة الإسكندرانية”.

ومن مجموع هذه المسرحيات التي عثر عليها لـ”صنوع” لا نجد فيها مسرحية يمكن أن يقال أن فيها اتجاها سياسيا، بل هي كما نرى ذات اتجاهات اجتماعية واضحة، فكيف يتفق ذلك مع ما قيل بأن مسرح “صنوع” قد أُُغلِق للأسباب السياسية، وكأنه كان يقدم مسرحيات بها تعريض بالمسئولية عن النشاط السياسي؟
وجواب ذلك أحد أمرين:
1- إما أن المسرحيات التي تحمل طابعا سياسيا لم تصل إلينا.
2- وإما أن النشاط السياسي المشار إليه لم يكن محصورا في مسرحيات “صنوع” بل في نشاطه الفردي، فقد قيل أنه كان على اتصال بـ”جمال الدين الأفغاني” وأنه شارك في تأسيس “محفل التقدم” و”جمعية محبي العلم” عام 1872، وربما كانت الصعوبات المالية هي التي أدت إلى إغلاق مسرحه، وقد كشفت عن ذلك مسرحيته “موليير مصر وما يقاسيه” ويقال أيضا أن مسرحية “الوطن والحرية” هي التي كانت سببا في إغلاق مسرحه، ولكن هذا الكلام كان صادرا من “يعقوب” نفسه، ذكره لأحد محرري الصحف.

وقد يرى بعض الباحثين أن “يعقوب صنوع” كان موضع اهتمام السلطة الحاكمة، فقد أكد د.إبراهيم عبده أن الخديوي “إسماعيل” قد أرسله في مهمة خاصة عام 1874… كذلك نفسر السماح له بإصدار صحيفة عام 1877.
ويرى باحثون آخرون أن “صنوع” في مسرحياته كان يكثر من التعبير عن الحرية (مثلما نرى في مسرحية “الضرتين”) وأنه كان يشيد بالبرنس “حليم” وكان الخديوي يكرهه لأنه كان ينافسه على العرش، وكان محبوبا عند الجمهور، وقد وردت إشارات إليه في بعض مسرحيات “صنوع”، فهو يكرر دائما: “ربنا كريم حليم”.
والذي يمكن أن يشار إليه أيضا في كتابات “صنوع” المسرحية أنه كان يركز على السخرية من الفوارق الاجتماعية، والتنديد بإقدام الأجانب على استغلال مصر تجاريا وماليا، كما كان يسخر من التفرنج والمتفرنجين.
ولكن إذا أخذنا هذه الأشياء في الاعتبار فقد كان لها ما يقابلها في مسرح “صنوع” لأنه في بعض مسرحياته كان يمجد الخديوي وحكومته في مواضع كثيرة.

ولقد وجد الباحثون اختلافا في النصوص في المسرحية الواحدة، فقد لاحظ د.محمد يوسف نجم أن مسرحية “البورصة” في النص المقتبس الذي ضمته مسرحية “موليير مصر وما يقاسيه” نجد تهجما واضحا على البورصة، في حين نجد أن النص الكامل لمسرحية “البورصة” يتضمن مديحا لها ودعاية، فلابد إذن أن “صنوع” قد غير نصوص بعض مسريحاته وفقا للظروف التي كانت تحيط به.

أحمد أبو خليل القباني

بدء “القباني” مسرحه في سورية إلا أنه لم يجد فيه نجاحا يذكر، ولذلك فقد قدم إلى الإسكندرية وقدم فيها عدة مسرحيات ناجحة كانت من تأليفه، مثل مسرحية “قهوة الدانوب” و”أنس الجليس” و”نفح الربى” و”عفة المحبين” أو “ولادة” و”عنترة” و”ناكر الجميل” و”الأمير محمود وزهر الرياض” و”الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح” كما قدم بعض المسرحيات المترجمة منها “الخل الوفي” عن قصة لـ”ألفريد دى موسيه” و”عايدة” التي ترجمها “سليم النقاش” عن الإيطالية، وانتقل بمسرحه إلى القاهرة وظل يتردد بين مصر وسورية، وحين يحضر إلى مصر يتجول بمسرحه في الأقاليم، فزار المنيا والفيوم وبني سويف.
وبقول الذين عاصروا “أبا خليل القباني” أنه كان موسيقيا بارعا وكان صوته جميلا، وكان الغناء كما نعلم جزءا مهما مصاحبا للمسرح منذ بداية نشأته، وإن كان لم يأت بجديد من حيث فن المسرح، وكان متبعا للمسرحية الغربية، كما أن شخصياته المسرحية كانت من السذاجة والاضطراب على قدر كبير، وكذلك من ضعف التحليل النفسي، ولكن الذي يذكر له أن مسرحياته المؤلفة كانت مستمدة من التاريخ العربي ومن أساطير ألف ليلة وليلة، وكان أسلوبه فيها جيدا أو فصيحا، وإن كان السجع يثقله والزخرفة الشكلية البلاغية التي كانت طبيعية موجودة في أسلوب ذلك العصر.
ونراه يشترك مع “مارون النقاش” في اختيار لغة مسرحياته بين الشعر والنثر كما يشترك معه أيضا في أنه لم يقتصر على الجانب التمثيلي في مسرحه، وإنما كان يعتمد على الموسيقى والغناء والرقص، ويذكر المؤرخون أيضا فضلا آخر لـ”القباني” وهو أنه مبتدع المسرحية الغنائية القصيرة- “الأوبريت”- في المسرح العربي حيث كان يقدمها فيما بين الفصول المسرحية.

0 Comments

Leave a Reply

Avatar placeholder

Your email address will not be published. Required fields are marked *